تحتل
الأزمة الإقتصادية الجانب الأكبر من إهتمامات رئيس الجمهورية ، وتشغل
الجزء الأكثر تكرارً فى خطاباته ، ونقاشاته ، ومفاوضاته الداخلية والخارجية
، وليس هناك من ينكر الجهود الناجحة لرئيس الدولة لتحديث بنية تحتية تشجع
الاستثمار ، وتستقطب رؤوس الأموال الاجنبية ، وأغلبها مبادرات فردية من شخص
الرئيس وقلة من المسئولين النشطاء فى الحكومة .
خلال عام أو يزيد قليلاً إنتهت أزمة
الكهرباء والطاقة ، وتم حفر تفريعة قناة السويس الجديدة فى مشهد إعترف
العالم بروعته وعظمته ، شبكات من الطرق شعر بها المواطن خلال شهور قليلة ،
مبادرات من القوات المسلحة لحل أزمة السلع التموينية لتكون فى متناول
الفقراء ومحدودى الدخل ، بالإضافة إلى مشروعات هامة فى مجالات الإسكان
والزراعة والصناعة ... وغيرها . ولكن .. هل يمثل الجانب الإقتصادى والبنية
التحتية القضايا الأكثر أهمية للشعب المصرى ؟؟ ، هل غذاء المصريين ،
وملبسهم ، ومسكنهم هى الأدوات التى تحكم تحركاتهم ؟؟ ، هل الشعب المصرى ذو
الحضارة الضاربة فى عمق التاريخ يقنع بملئ بطنه ، ويكتفى بتحصين جسده من
البرد والعراء ؟؟ . لم تكن الأزمات الإقتصادية رغم أهميتها هى السبب
الرئيسى فى إندلاع ثورتى 25 يناير و30 يونيو ، لم ينتفض المصريين ضد نظامين
حكم متتاليين ليسقطهم من أجل رغيف الخبز ، او نقص الوقود ، او تهالك مرافق
الدولة وبنيتها التحتية ، فجميع تلك المشكلات دفعته لإسقاط حكومات وليس
أنظمة حاكمة .
كان الوقود الحقيقى الذى أشعل ثورتى
الشعب هى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الإجتماعية ، لم ينتفض المصرى
من أجل بطنه بل كرامته ، ولا من أجل جسده بل حريته ، فكانت قضايا الحرية
وإنتهاك مؤسسات الحكم لكرامة المواطنين ، هى من حركت الشباب للخروج ضد
مبارك ، كما كانت إشكالية الثقافة وإختطاف الهوية المصرية سبباً فى خروج
المصريين بكافة اطيافهم ضد حكم الاخوان .
تعالت الأصوات المدفوعة من بعض الأجهزة
الأمنية فى مصر مؤخراً للترويج لنظرية المؤامرة ، آملاً فى إستقطاب الشعب
وإقناعه بالتخلى عن بعض من حرياته نظير أمنه وآمانه ، سياسات قديمة بالية
تقلص طموحات المصريين وتختزلها فى مجرد الإحساس بالأمن ، ظناً إن آمان هذا
الشعب سيغنى يوماً ما عن آماله فى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة
الإجتماعية بين أبنائه ، وطموحاته فى بناء مجتمع مدنى حقيقى يقوم على
الديمقراطية والتعددية السياسية . سيدى الرئيس .. قد يحتمل المصريين
أزماتهم الإقتصادية الطاحنة ، ولكن لن يصبروا طويلاً أمام تكميم أفواه
المعارضة السياسية ، وإعتقال شباب ثورتهم والزج بهم فى السجون بتهم تتعلق
بحرية التعبير ، والتضييق على أنشطة مؤسسات المجتمع المدنى ، وممارسات بعض
أفراد الشرطة تجاه المواطنين ، وغيرها من أدوات التعامل القمعية التى لا
تختلف عما كانت عليه قبل ثورة 25 يناير .
الشعب المصرى الذى خرج عن بكرة أبيه فى
شوارع وميادين مصر ضد الفاشية الدينية ، للحفاظ على هويته الثقافية من
الإختطاف لصالح مشروع ظلامى يستغل الدين لأغراض سياسية ، لن يصمت أمام
قضايا الحسبة الدينية المستخدمة لقمع المفكرين والأدباء بتهمة إزدراء
الأديان ، والتفتيش فى ضمائر الناس وإعادة محاكم التفتيش من جديد ، لدرجة
وصلت لحد الحكم بالسجن خمس سنوات بحق أطفال مراهقين بتهمة ازدراء الإسلام
لقيامهم بمشهد مسرحى ينتقد تصرفات الجماعات المتطرفة ، فيما يتم إطلاق سراح
إرهابيين ومتشددين يسيئون للدين والوطن والإنسانية . سيدى الرئيس .. حلول
الأزمات الإقتصادية وبناء الدولة لم ولن تكن بمنأى عن قيم الحرية ،
والعدالة الإجتماعية وإحترام حقوق الانسان ، والتكريس لحياة سياسية حقيقية
تقوم على الديمقراطية والتعددية السياسية وتشجيع حرية التعبير ، ولا يوجد
أى من المجتمعات التى نهضت إقتصادياً وإجتماعياً إلا وكانت كل هذه القيم
الإنسانية هى أساس بنائها وتطورها،فالشعوب تصطف حول قضية فكرية وتوجهات
سياسية ، أكثر ما يجمعها رغيف خبز أو مكتسبات إقتصادية .
الشروق