إن مجرد وجود عجز في حساب الموظف العمومي لا يمكن أن يكون بذاته
دليلاً على حصول الاختلاس لجواز أن يكون ذلك ناشئاً عن خطأ في العمليات الحسابية أو
لسبب آخر، وأن الأحكام في المواد الجنائية يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الظن
والتخمين.
وقررت محكمة النقض في حكمها
من حيث إن مما ينعاه الطاعن على الحكم المطعون فيه أنه إذ دانه بجريمة الاختلاس قد
شابه القصور في التسبيب والإخلال بحق الدفاع ذلك أن المحكمة في سبيل تحقيق دفاع الطاعن
- كانت قد ندبت مكتب خبراء وزارة العدل لأداء المأمورية المبينة بأسباب حكمها إلا أن
المحكمة فصلت في الدعوى قبل أن يقدم الخبير تقريره ودون أن تشير إلى التقرير الذي أودع
ملف الدعوى هذا فضلاً عن أنه تمسك في مرافعته بأن العجز في عهدته مرجعه إلى عدم انتظام
العمل واشتراك آخرين معه في التحصيل ورغم جوهرية هذا الدفاع الذي ساقه، فإن المحكمة
لم تعن بإيراده أو الرد عليه مكتفية في إدانته بمجرد ثبوت العجز في حسابه دون أن تستظهر
انصراف نيته إلى إضافة المال المختلس إلى ذمته مما يعيب الحكم ويستوجب نقضه.
ومن حيث إنه يبين من الاطلاع على الأوراق أن محكمة الموضوع - تحقيقاً لدفاع الطاعن
- واستجلاء لواقعة الدعوى قبل الفصل فيها ندبت مكتب الخبراء بوزارة العدل للاطلاع على
أوراقها ومستنداتها لبيان المبلغ موضوع العجز والمسئول عنه وسبب هذا العجز وتاريخه،
وقبل أن يقدم مكتب الخبراء تقريره - على ما يبين من الاطلاع على محضر جلسة المحاكمة
- عادت المحكمة وفصلت في موضوع الدعوى دون أن تشير إلى تقرير الخبير الذي أودع ملف
الدعوى - على ما يبين من الاطلاع على المفردات - فلم يورد فحواه ولم يعرض لما انتهى
إليه من نتائج فإن ذلك مما ينبئ بأن المحكمة لم تواجه عناصر الدعوى ولم تلم بها على
وجه يفصح عن أنها فطنت لها ووازنت بينها. ولا يحمل قضاؤها على أنه عدول عن تحقيق الدعوى
عن طريق مكتب الخبراء اكتفاء بالأسباب التي أقام عليها قضاءه، ذلك بأنه من المقرر أنه
إذا كانت المحكمة قد رأت أن الفصل في الدعوى يتطلب تحقيق دليل بعينه فواجب عليها أن
تعمل على تحقيق هذا الدليل أو تضمن حكمها الأسباب التي دعتها إلى أن تعود فتقرر عدم
حاجة الدعوى ذاتها إلى هذا التحقيق، أما وهي لم تفعل ولم تعن بتحقيق دفاع الطاعن -
بعد أن قدرت جديته - ولم تقسطه حقه بلوغاً إلى غاية الأمر فيه، وهو دفاع يعد في خصوص
هذه الدعوى جوهرياً ومؤثراً في مصيرها ولم تكشف عنه إيراداً له ورداً عليه فإن ذلك
يعيب حكمها ويوجب نقضه، هذا فضلاً عن أنه لما كان القانون قد فرض العقاب في المادة
112 من قانون العقوبات على عبث الموظف بما يؤتمن عليه مما يوجد بين يديه بمقتضى وظيفته
بشرط انصراف نيته - باعتباره حائزاً له - إلى التصرف فيه على اعتباره أنه مملوك له،
وهو معنى مركب من فعل مادي - هو التصرف في المال - ومن عامل معنوي هو نية إضاعة المال
على ربه، وكان من المقرر أن مجرد وجود عجز في حساب الموظف العمومي لا يمكن أن يكون
بذاته دليلاً على حصول الاختلاس لجواز أن يكون ذلك ناشئاً عن خطأ في العمليات الحسابية
أو لسبب آخر، وكانت الأحكام في المواد الجنائية يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على
الظن والتخمين. لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد دان الطاعن بجريمة الاختلاس
لمجرد ثبوت عجز في حسابه دون أن يستظهر أن نيته انصرفت إلى إضافة المال المختلس إلى
ذمته مع أن الطاعن تمسك في دفاعه أمام محكمة الموضوع بأن العجز في حسابه إنما يرجع
إلى عدم انتظام العمل وقيام آخرين بالتحصيل معه وعدم خصم المبالغ المنصرفة على صيانة
الأجهزة وعلى الرغم من جوهرية هذا الدفاع - خصوصية هذه الدعوى لتعلقه بأحد أركان الجريمة
التي دين الطاعن بها - مما من شأنه لو ثبت أن يتغير به وجه الرأي في الدعوى، ولما كان
الحكم المطعون فيه قد التفت عن هذا الدفاع ولم يقسطه حقه ولم يعن بتمحيصه بلوغاً إلى
غاية الأمر فيه - فإنه يكون مشوباً بالقصور في التسبيب فضلاً عن الإخلال بحق الدفاع
ولا ينال من ذلك، ما هو مقرر من أنه لا يلزم أن يتحدث الحكم استقلالاً عن نية الاختلاس
لأن شرط ذلك أن تكون الواقعة الجنائية التي أثبتها الحكم تفيد بذاتها أن المتهم قصد
بفعلته إضافة ما اختلسه إلى ملكه الأمر الذي خلت منه مدونات الحكم - لما كان ما تقدم،
فإن الحكم المطعون فيه يكون معيباً بما يوجب نقضه والإعادة دون حاجة لبحث باقي أوجه
الطعن.