كى يكفل له دفاعا حقيقيا لا مجرد دفاعا شكليا تقديرا منه بأن الاتهام بجناية أمر له خطره، فإن هذا الغرض لا يتحقق إلا إذا كان هذا المدافع قد حضر إجراءات المحاكمة من بدايتها إلى نهايتها، حتى يكون ملما بما أجرته المحكمة من تحقيق وما اتخذته من إجراءات طوال المحاكمة، ومن ثم فقد تعين أن يتم سماع الشهود ومرافعة النيابة العامة وباقى الخصوم فى وجوده بشخصه أو ممثلا بمن يقوم مقامه، وهو ما لم يتحقق فى الدعوى الماثلة. لما كان ذلك، فإن المحكمة تكون قد أخلت بحق الطاعن الثالث فى الدفاع مما يعيب حكمها بما يستوجب نقضه بالنسبة له والإحالة.
وقررت محكمة النقض في حكمها
حيث إن مبنى الطعن المقدم من المحكوم عليهما الأول والثانى هو أن الحكم المطعون فيه إذ دانهما بجريمة قتل عمد إقترنت بها جناية شروع فى قتل، ودان أولهما بجريمتى إحراز سلاح نارى لا يجوز الترخيص فيه وذخيرته، ودان الثانى بجريمتى إحراز سلاح نارى مششخن وذخيرته بغير ترخيص، كما دانهما بجريمتى إطلاق السلاحين فى داخل المدينة، قد شابه خطأ فى الإسناد وقصور فى التسبب واخلال بحق الدفاع. ذلك بأن الثابت من جماع أقوال شاهدى الإثبات رئيس وحدة المباحث، والمجنى عليه الأول فى جناية الشروع فى القتل المسندة إليهما - أن عدة أعيرة نارية قد أطلقت على القتيل وهو جالس على الأرض فأصيب ثم قام واضعا يده على صدره وسار مترنحا مسافة ثلاثين مترا إلى أن أعيد إطلاق النار عليه حيث سقط، وهو تصوير قطع الطبيب الشرعى فى الجلسة باستحالته بما شهد به من أن إصابة القتيل فى أذين القلب تمنعه من أن يسير خطوة واحدة، ولكن الحكم تدخل فى رواية هذين الشاهدين فجزأها وحصلها بطريقة مبتسرة مسختها وأبعدتها عن حقيقتها بمظنة أن ذلك يرتفع به التناقض بين الدليلين القولى والفنى، ثم استطرد يبرر هذا التناقض بما لا يصلح لرفعه. هذا إلى أنه لم يرد على ما دفع به الطاعنان من أن الضابط وهو فى شرفة مسكنه لا يستطيع رؤية مكان الحادث لبعد المسافة ووجود عوائق مادية تحجب هذه الرؤية.
وحيث إن الحكم المطعون فيه بين واقعة الدعوى بما مؤداه أن الطاعنين توجها صبيحة يوم الحادث إلى المكان الذى علما بوجود القتيل فيه بعد أن انتويا قتله أخذا بالثأر، وكان أولهما يحمل مدفعا رشاشا بينما كان الثانى يحمل بندقية يهدد بها الأهالى لمنعهم من الإقتراب وحملهم على الفرار، وفى أثناء ذلك أطلق الأول عدة أعيرة من مدفعه صوب القتيل أصابه أحدها فى المكان الذى عثر على جثته فيه فأرداه قتيلا، وبعد أن سقط على الأرض قام بقلب جثته وأطلق عليه عيارا آخر ليتأكد من موته. وقد أصابت بعض طلقات المدفع المجنى عليهما الآخرين فى جناية الشروع فى القتل المسندة إلى الطاعنين الذين تصادف وجودهما فى مكان الحادث، ثم ولى الطاعنان هاربين فتابع رئيس وحدة المباحث الذى رأى الحادث الطاعن الثانى الذى تخلص من بندقيته حتى تمكن من القبض عليه ومعه "جبخانة" تحوى ثلاثين طلقة، ثم عثر الضابط فى اليوم التالى على البندقية والمدفع وبه سبع طلقات فى مبنى مهجور. وحصل الحكم شهادة الضابط فى قوله: "فقد شهد النقيب... بالتحقيقات وبالجلسة بأنه فى صباح يوم الحادث كان فى منزله والمطل على شارع المركز وسمع صوت طلقات نارية فنظر من الشرفة ووجد شخصين أحدهما يحمل سلاحا طويلا عبارة عن بندقية والثانى يحمل سلاحا قصيرا ورأى حامل السلاح القصير يطلق منه عدة أعيرة نارية على شخص بالقرب من مقهى جعفر وعرف من صوت الأعيرة أن السلاح الذى يحمله إما أنه مدفع رشاش أو بندقية آلية ورأى الشخص الذى يطلق عليه النار يسير فى الشارع يمينا ويسارا وهو منحنى فأطلق عليه حامل السلاح القصير النار مرة أخرى فسقط على الأرض فى وسط الشارع وكان الشخص الآخر يهدد ببندقيته ليمنع الناس من الاقتراب منهما فأسرع هو بالنزول من مسكنه إلى الشارع وعندئذ رأى حامل السلاح القصير يقلب جثة المجنى عليه ويطلق عليه عيارا آخر ليتأكد من موته كما حصل أقوال المجنى عليه الأول فى جناية الشروع فى القتل المسندة إلى الطاعنين فى قوله: "وشهد... بالتحقيقات وتليت أقواله بالجلسة بأنه كان يجلس على مقهى جعفر فى صبيحة يوم الحادث ورأى المتهمين الأول والثانى - الطاعنين - يطلقان النار على - القتيل وكان الأول يحمل مدفعا رشاشا وقد أصيب هو فى فخذه وذراعه الأيسرين من أحد هذه الطلقات العديدة التى أطلقاها..." ثم رد الحكم على ما أثاره الطاعنان من قيام تناقض بين الدليلين القولى والفنى بقوله: "وحيث إن المحكمة تطمئن إلى أقوال شهود الإثبات والتى تأيدت بتقرير الصفة التشريحية وبالتقارير الطبية الشرعية وتعول عليها وتأخذ بها ولا تعول على إنكار المتهمين ولا على ما ساقوه من دفاع، إذ لم يذكر أحد وجود المعركة التى زعمها المتهمان - الطاعنان - أو أن غيرهما أطلقا النار وقت الحادث، وأن ضابط المباحث لم يجزم أن المجنى عليه - القتيل - قد أصيب أمام قهوة جعفر وأنه سار حتى المكان الذى سقط فيه وإنما هو قد ذكر بأنه رأى المتهمين الأول والثانى يطلقان النار صوب شخص لم يتبينه عند قهوة جعفر وأنه رأى هذا الشخص يسير شرقا وغربا وهو منحنى ويضع يده فى صدره وهذا لا يعنى أن المجنى عليه كان قد أصيب فى صدره فى ذلك الوقت. إذ ذكر الضابط فى أقواله فى التحقيقات وهى التى تطمئن إليها المحكمة لمعاصرتها لوقت الحادث أنه بعد أن نزل من مسكنه إلى الشارع رأى المتهم الأول ـ الطاعن الأول - يطلق النار مرة أخرى على المجنى عليه سقط بعدها مباشرة على الأرض، وأن المتهم المذكور قام بقلب الجثة وأطلق عليها عيارا آخر ليتأكد من موته وهو ما أيده فيه تقرير الصفة التشريحية من وجود إصابة غير حيوية بإلية المجنى عليه حدثت بعد وفاته" - لما كان ذلك، وكان الأصل أنه لا يشترط فى شهادة الشهود أن تكون واردة على الحقيقة المراد إثباتها بأكملها وبجميع تفاصيلها على وجه دقيق بل يكفى أن يكون من شأن تلك الشهادة أن تؤدى إلى هذه الحقيقة باستنتاج سائغ تجريه محكمة الموضوع يتلائم به ما قاله الشهود بالقدر الذى رووه مع عناصر الاثبات الأخرى المطروحة أمامها وهى لا تلتزم بأن تورد فى حكمها من أقوال الشهود إلا ما تقيم قضاءها عليه، إذ لها فى سبيل استخلاص الصورة الصحيحة لواقعة الدعوى أن تجزئ أقوالهم فتأخذ بما تطمئن إليه منها وتطرح ما عداه دون إلزام عليها ببيان العلة؛ كما وأنه لا يلزم لصحة الحكم بالإدانة أن تطابق أقوال الشهود مضمون الدليل الفنى بل يكفى أن يكون جماع الدليل القولى غير متناقض مع جوهر الدليل الفنى تناقضا يستعصى على الملاءمة والتوفيق. لما كان ذلك، وكان ما حصله الحكم المطعون فيه من أقوال شاهدى الإثبات سالفى الذكر مستمدا مما شهد به أولهما فى جلسة المحاكمة وله أصل ثابت مما أدلى به كلاهما فى تحقيق النيابة العامة - على ما يبين من المفردات المضمومة - خاصة وأنهما وإن ذكرا فيه أن أعيرة نارية قد أطلقت صوب القتيل، إلا أنهما صرحا بأنهما لا يعرفان عدد ما أصابه منها بالفعل قبل وفاته - الأمر الذى تنحسر به عن الحكم قالة الخطأ فى الاسناد؛ وكان البين من مدونات الحكم السالف إيرادها أنه انتهى باستنتاج سائغ - وفى حدود سلطته الموضوعية - إلى أن عيارا ناريا واحدا أصاب القتيل وهو حى فى المكان الذى عثر على جثته فيه فأرداه قتيلا وأن ما ذكر من إطلاق النار صوب القتيل ثم سيره شرقا وغريا بانحناء - وليس يترنح كما يقول الطاعنان - وهو يضع يده على صدره لا يعنى أنه كان قد أصيب بالفعل فى ذلك الوقت، وهو ما يتلائم به جماع الدليل القولى مع جوهر الدليل الفنى. لما كان ذلك، وكان الحكم قد بين واقعة الدعوى بما تتوافر به العناصر القانونية للجرائم التى دان الطاعنين بها وأورد على ثبوتها فى حقهما أدلة مستمدة من أقوال الضابط والمجنى عليهما فى جناية الشروع فى القتل المسندة إليهما ومما ثبت من تقرير الصفة التشريحية وسائر التقارير الطبية الشرعية؛ وهى أدلة من شأنها أن تؤدى إلى ما رتبه الحكم عليها؛ فلا عليه إن هو لم يعرض - بعد ذلك للرد على ما أرسله الدفاع من قول لم يقصد به سوى مجرد التشكيك فى رواية الضابط التى اطمأنت المحكمة إلى صدقها، هو بعد المسافة ووجود عوائق مادية تحجب عنه رؤية مكان الحادث من شرفة مسكنه، طالما أنه لم يطلب من المحكمة تحقيقا معينا فى هذا الصدد؛ وما دام أنه من المقرر أن المحكمة لا تلتزم بمتابعة المتهم فى مناحى دفاعه الموضوعى وتقصيها فى كل جزئية منها للرد عليها ردا صريحا وإنما يكفى أن يكون الرد مستفادا من أدلة الثبوت التى عولت عليها فى حكمها - لما كان ما تقدم، فإن طعن الطاعنين الأول والثانى لا يعدو فى حقيقته أن يكون محاولة لتجريح أدلة الدعوى على وجه معين تأديا من ذلك إلى مناقضة الصورة التى ارتسمت فى وجدان محكمة الموضوع بالدليل الصحيح وهو ما لا يقبل لدى محكمة النقض، ومن ثم يكون هذا الطعن برمته على غير أساس متعينا رفضه موضوعا.
وحيث إن مبنى الطعن المقدم من المحكوم المطعون عليه الثالث هو أن الحكم المطعون فيه إذ دانه بجرائم شروع فى قتل وإحراز سلاح نارى لا يجوز الترخيص فيه وذخيرته وإطلاق فى داخل المدينه قد شابه إخلال بحق الدفاع ؛ ذلك بأنه فى الجلسة التى سمعت فيها المحكمة الشهود وبعد سماعهم وانتهاء مرافعة المدافعين عن المحكوم عليهما الأول والثانى تبين أن الطاعن غير ممثل فأثبت حضور محام - تصادف وجوده فى الجلسة - عن وكيله واقتصر على طلب براءته لأن الحادث جماعى مما يدل على أنه لم يتصل بالدعوى - وليس فى محضر تلك الجلسة ما يثبت أنه قد حضرها منذ بدايتها.
وحيث إن البين من محاضر جلسات المحاكمة أنه لم يثبت حضور أحد من المحامين للدفاع عن الطاعن فيما أسند إليه من جنايات، وذلك بجلسة 3 من أبريل سنة 1974 التى سمع فيها الشهود الحاضرون إلى أن تم سماعهم وتلاوة أقوال الشاهدين الغائبين وسماع مرافعة النيابة العامة والمدافعين عن المحكوم عليهما الآخرين، ثم أثبت فى نهاية تلك الجلسة حضور محام عن وكيل الطاعن وطلبه براءته لأن الحادث جماعى، مع أنه لم يثبت أن تتبع إجراءات المحاكمة بالجلسة أو أنه حضر سماع الشهود ومرافعة النيابة وسائر الخصوم، وناقشت المحكمة بعد ذلك الطبيب الشرعى ثم أجلت إصدار حكمها المطعون فيه إلى اليوم التالى الذى نطقت به فيه لما كان ذلك، وكان من المقرر أن الشارع وقد أوجب حضور محام يدافع عن كل متهم بجناية أحيلت إلى محكمة الجنايات، كى يكفل له دفاعا حقيقيا لا مجرد دفاعا شكليا تقديرا منه بأن الاتهام بجناية أمر له خطره، فإن هذا الغرض لا يتحقق إلا إذا كان هذا المدافع قد حضر إجراءات المحاكمة من بدايتها إلى نهايتها، حتى يكون ملما بما أجرته المحكمة من تحقيق وما اتخذته من إجراءات طوال المحاكمة، ومن ثم فقد تعين أن يتم سماع الشهود ومرافعة النيابة العامة وباقى الخصوم فى وجوده بشخصه أو ممثلا بمن يقوم مقامه، وهو ما لم يتحقق فى الدعوى الماثلة. لما كان ذلك، فإن المحكمة تكون قد أخلت بحق الطاعن الثالث فى الدفاع مما يعيب حكمها بما يستوجب نقضه بالنسبة له والإحالة.