إذا كان مفاد نص المادة 818 من قانون المرافعات السابق الذي ينطبق على واقعة الدعوى - وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض - تخويل المتعاقدين الحق في الالتجاء إلى التحكيم لنظر ما قد ينشأ بينهم من نزاع كانت تختص به المحاكم أصلاً، فإن اختصاص جهة التحكيم بنظر النزاع، وإن كان يرتكن أساساً إلى حكم القانون الذي أجاز استثناء سلب اختصاص جهات القضاء، إلا أنه ينبني مباشرة وفي كل حالة على حدة على اتفاق الطرفين، وهذه الطبيعة الاتفاقية التي يتسم بها شرط التحكيم، وتتخذ قواماً لوجوده تجعله غير متعلق بالنظام العام، فلا يجوز للمحكمة أن تقضي بإعماله من تلقاء نفسها، وإنما يتعين التمسك به أمامها، ويجوز النزول عنه صراحة أو ضمناً، ويسقط الحق فيه، فيما لو أثير متأخراً بعد الكلام في الموضوع، إذ يعتبر السكوت عن إبدائه قبل نظر الموضوع نزولاً ضمنياً، عن التمسك به [(1)] - وإذ كان ما صدر من الخصم صاحب المصلحة في التمسك به، قبل إبدائه من طلب الحكم في الدعوى دون تمسكه بشرط التحكيم، وطلب التأجيل للصلح، والاتفاق على وقف الدعوى لإتمامه، يفيد تسليمه بقيام النزاع أمام محكمة مختصة، ومواجهته موضوع الدعوى، فإنه بذلك يكون قد تنازل ضمناً عن الدفع المشار إليه مما يسقط حقه فيه.
وقررت محكمة النقض في حكمها
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع التقرير الذي تلاه السيد المستشار المقرر والمرافعة وبعد المداولة.
حيث إن الطعن استوفى أوضاعه الشكلية.
وحيث إن الوقائع - على ما يبين من الحكم المطعون فيه وسائر الأوراق - تتحصل في أن الطاعنين أقاما على المطعون ضدهما الدعوى رقم 366 سنة 1964 تجاري كلي القاهرة بطلب الحكم بإلزامهما متضامنين بأن يؤديا لهما مبلغ 6609 ج والفوائد بواقع 5% من تاريخ المطالبة القضائية حتى تمام الوفاء. وقالا بياناً لدعواهما إنه بمقتضى الوثيقة رقم 19477 أمناً على سيارتهما رقم 19926 ملاكي القاهرة لدى المطعون ضدهما تأميناً إجبارياً عن المدة من 18/ 2/ 1961 إلى 21/ 2/ 1962، كما أمنا عليها تأميناً شاملاً بالوثيقة رقم 808 سيارات عن المدة من 21/ 3/ 1960 إلى 21/ 3/ 1962، وحدث في 5/ 8/ 1961 أن اصطدمت السيارة المؤمن عليها بشخص كان يعبر الطريق أمامها مما أدى إلى سقوطها في إحدى الترع، ونتج عن هذا الحادث وفاة ذلك الشخص واثنين من ركاب السيارة هما المهندس فيليب سليم وابنه مجدي وإصابة شخص آخر، وقيدت الواقعة التي أخطر بها المطعون ضدهما فور حدوثها جنحة برقم 1909 سنة 1961 العياط ضد سائق السيارة، وقد قضي فيها نهائياً بتاريخ 12/ 2/ 1964 بإدانته وبإلزامه متضامناً مع الطاعنين بتعويض قدره 6000 ج لورثة المجني عليهما المتوفين، وإذ طالب الطاعنان المطعون ضدهما بأن يدفعا لهما مبلغ التعويض المحكوم به والمصاريف القضائية، وامتنعا عن ذلك، فقد أقاما عليهما الدعوى الحالية بطلباتهما السابق بيانها. دفع المطعون ضدهما بعدم قبول الدعوى لوجود شرط التحكيم بوثيقة التأمين الشامل كما طلبا رفض الدعوى استناداً إلى أن وثيقة التأمين الإجباري لا تغطي مسئولية الطاعنين المدنية عن الحادث. وبتاريخ 6/ 3/ 1966 قضت المحكمة الابتدائية بقبول الدفع المشار إليه. استأنف الطاعنان هذا الحكم بالاستئناف رقم 691 سنة 83 ق القاهرة ومحكمة الاستئناف قضت في 7/ 2/ 1967 بتأييد الحكم المستأنف. طعن الطاعنان في هذا الحكم بطريق النقض، وقدمت النيابة العامة مذكرة أبدت فيها الرأي برفض الطعن وبالجلسة المحددة لنظره أصرت النيابة على رأيها.
وحيث إن الطعن أقيم على أربعة أسباب ينعى الطاعنان بالأول منها على الحكم المطعون فيه الخطأ في تطبيق القانون وتأويله من وجهين (الأول) ذهب الحكم المطعون فيه إلى أن واقعة الدعوى تحكمها المادة السادسة من القانون رقم 652 لسنة 1955 وهي تقضي بأن التأمين الإجباري عن السيارة الخاصة المعدة للاستعمال الشخصي يكون لصالح الغير دون الركاب ولباقي أنواع السيارات يكون لصالح الغير والركاب دون عمالها، وإذ كانت السيارة رقم 19926 ملاكي المؤمن عليها لدى المطعون ضدهما والتي تسبب عنها الحادث ليست من السيارات الملاكي المعدة للاستعمال الشخصي، بل هي واحدة من عدة سيارات تملكها شركة المقاولات التي يمثلها الطاعنان ومرخصة باسمها، وقد تم التأمين عليها بهذه الصفة وهي وإن وصفت في وثيقة التأمين بأنها سيارة خاصة، فإنما كان ذلك تمييزاً لها عن غيرها من السيارات المعدة للنقل العام، ولم يكن الغرض من ترخيصها هو الاستعمال الشخصي، بل كان لخدمة أغراض الشركة وما يتصل بها من أعمال، ومنها نقل موظفيها وعمالها إلى موطن العمل الذي تباشره الشركة، وظروف الحال التي تم فيها التأمين ونصوص الوثيقة وطبيعة العمل ذاتها - وقد جرت بين شركتين - تدل على ذلك مما تعتبر معه السيارة المؤمن عليها سيارة نقل خاص، إلا أن الحكم المطعون فيه اعتبرها سيارة خاصة "ملاكي" ولا يشمل التأمين الأضرار الواقعة لركابها مما يعيبه بالخطأ في تطبيق القانون وتأويله (الثاني) قرر الحكم المطعون فيه أن نص المادة 13 من القانون رقم 652 لسنة 1955 الذي يقضي بأنه "في تطبيق المادة 6 من القانون رقم 449 لسنة 1955، لا يعتبر الشخص من الركاب المشار إليهم في تلك المادة إلا إذا كان راكباً في سيارة من السيارات المعدة لنقل الركاب" جاء مقيداً لحكم المادة السادسة المشار إليها وهذا من الحكم خطأ في تطبيق القانون ذلك أن المشرع لم يقصد إلا استبعاد الأشخاص الذين يركبون سيارة خاصة معدة للاستعمال الشخصي في حدود ما أشارت إليه المادة السادسة، دون أولئك الذين يركبون سيارة خاصة تستعملها شركات القطاع العام لنقل عمالها، هذا إلى أنه لم يحدث أي تغيير في وجه استعمال السيارة إذ أنها أعدت أصلاً لنقل موظفي وعمال الشركة، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر فإنه يكون قد أخطأ في تطبيق القانون وتأويله أيضاً.
وحيث إن هذا النعي مردود، ذلك أن المادة السادسة من القانون رقم 449 لسنة 1955 بشأن السيارات وقواعد المرور تنص على أن التأمين في السيارة الخاصة - وهي التي عرفتها المادة الثانية من هذا القانون بأنها المعدة للاستعمال الشخصي - يكون لصالح الغير دون الركاب ولباقي أنواع السيارات يكون لصالح الغير والركاب دون عمالها، وتنص المادة الخامسة من القانون رقم 652 لسنة 1955 بشأن التأمين الإجباري من المسئولية المدنية الناشئة عن حوادث السيارات على أن "يلتزم المؤمن بتغطية المسئولية المدنية الناشئة عن الوفاة أو عن أية إصابة بدنية تلحق أي شخص من حوادث السيارة إذا وقعت في جمهورية مصر، وذلك في الأحوال المنصوص عليها في المادة 6 من القانون رقم 449 لسنة 1955"، كما نصت المادة 13 من ذات القانون على أنه "في تطبيق المادة السادسة السابق بيانها لا يعتبر الشخص من الركاب المشار إليهم في تلك المادة إلا إذا كان راكباً في سيارة من السيارات المعدة لنقل الركاب وفقاً لأحكام القانون المذكور" ومفاد هذه النصوص مترابطة أن التأمين الإجباري على السيارة الخاصة "الملاكي" لا يشمل الأضرار التي تحدث لركابها ولا يغطي التأمين في هذه الحالة المسئولية المدنية عن الإصابات التي تقع لهؤلاء الركب. لما كان ذلك وكان الثابت من وثيقة التأمين الإجباري وعلى ما أورده الحكم المطعون فيه أن هذا التأمين كان عن سيارة خاصة "ملاكي" فإن المؤمن "الشركة المطعون ضدها" لا يلتزم بتغطية المسئولية المدنية الناشئة عن وفاة المجني عليهما اللذين كانا يركبان السيارة المؤمن عليها وقت الحادث، ولا عبرة بما يتحدى به الطاعنان من أنه كان ملحوظاً وقت التأمين أن السيارة المؤمن عليها مملوكة لشركة المقاولات التي يمثلانها، وكانت بهذه المثابة معدة لنقل عمالها، لا عبرة بذلك طالما أن الثابت من الوثيقة وعلى ما سلف البيان أن تلك السيارة هي سيارة خاصة "ملاكي" إذ أن هذا الوصف بمجرده كاف لأن يكون التأمين قاصراً على الأضرار التي تحدث للغير دون ركاب السيارة طبقاً للقانون، كما سبق القول، وإذ التزم الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى بعدم مسئولية شركة التأمين عن الأضرار التي حدثت عن وفاة المجني عليهما، وذلك بالاستناد إلى وثيقة التأمين الإجباري فإنه يكون قد طبق القانون تطبيقاًَ صحيحاً، ويكون النعي عليه بهذا السبب على غير أساس.
وحيث إن حاصل السبب الثاني أن الحكم المطعون فيه ذهب إلى القول بأن الوثيقة لا تغطي - طبقاً لنصوصها ولأحكام القانون رقم 449 لسنة 1955 والقانون رقم 652 لسنة 1955 - مسئولية الطاعنين المدنية عن الإصابات التي تحدث لركاب السيارة المؤمن عليها تأميناً إجبارياً، وذلك دون أن ينقل الحكم من الوثيقة النصوص الدالة على ثبوت هذه الواقعة لديه حتى يتضح وجه استدلاله بها وهو ما يعيبه بالخطأ في الإسناد والقصور في التسبيب.
وحيث إن هذا النعي مردود بأنه لا يعيب الحكم - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أنه لم يذكر نصوص المستندات التي اعتمد عليها ما دامت هذه المستندات كانت مقدمة إلى المحكمة ومبينة في مذكرات الخصوم مما يكفي معه مجرد الإشارة إليها، ومن ثم فإن النعي على الحكم المطعون فيه بهذا السبب يكون غير سديد.
وحيث إن حاصل السبب الثالث أن الحكم المطعون فيه مسخ إقرارات الشركة المطعون ضدها الأولى، في شأن التنازل عن التمسك بشرط التحكيم الوارد في وثيقة التأمين الشامل، ذلك أن الثابت من محاضر جلسات محكمة أول درجة أن القضية نظرت أمامها في عدة جلسات، وتأجلت للصلح ثم أوقفت اتفاقاً بجلسة 20/ 6/ 1965 لذات السبب، وقد حدث ذلك كله دون أن تتمسك المطعون ضدها بشرط التحكيم، مع أن المحكمة كانت قد أثارته من تلقاء نفسها في جلسة سابقة على الجلسة التي أوقفت فيها الدعوى اتفاقاً للصلح، ويرى الطاعنان أن هذا المسلك من جانب المطعون ضدها يكشف عن تنازلها عن شرط التحكيم، وإذ اعتبر الحكم المطعون فيه أن ما صدر منها على النحو السالف بيانه لا ينطوي على التنازل عن هذا الشرط قولاً منه بأن محاضر الجلسات قد خلت من أي دفاع للطرفين، وإنما اقتصرت على تسجيل طلب التأجيل لتقديم مستندات أو للصلح، فإنه يكون بذلك قد مسخ إقرارات المطعون ضدها إذ أن دفاعها كان يقوم أساساً على أن وثيقة التأمين الإجباري لا تغطي المسئولية المدنية بما يترتب عليه أن دخولها في الصلح والتفاوض فيه لا يكون إلا على أساس التأمين الشامل الأمر الذي يستفاد منه تنازلها عن التمسك بشرط التحكيم الوارد في هذه الوثيقة، فلا يجوز لها أن تعود فتتمسك به بعد أن أسقطت حقها فيه.
وحيث إن هذا النعي صحيح، ذلك أنه لما كانت المادة 818 من قانون المرافعات السابق التي تنطبق على واقعة الدعوى تنص على أنه "يجوز للمتعاقدين أن يشترطوا بصفة عامة عرض ما قد ينشأ بينهم من النزاع في تنفيذ عقد معين على محكمين"، فإن مفاد هذا النص - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - تخويل المتعاقدين الحق في الالتجاء إلى التحكيم لنظر ما قد ينشأ بينهم من نزاع كانت تختص به المحاكم أصلاً، فاختصاص جهة التحكيم بنظر النزاع وإن كان يرتكن أساساً إلى حكم القانون الذي أجاز استثناء سلب اختصاص جهات القضاء، إلا أنه ينبني مباشرة وفي كل حالة على حدة على اتفاق الطرفين وهذه الطبيعة الاتفاقية التي يتسم بها شرط التحكيم، وتتخذ قواماً لوجوده، تجعله غير متعلق بالنظام العام، فلا يجوز للمحكمة أن تقضي بإعماله من تلقاء نفسها، وإنما يتعين التمسك به أمامها، ويجوز النزول عنه صراحة أو ضمناً، ويسقط الحق فيما لو أثير متأخراً بعد الكلام في الموضوع، إذ يعتبر السكوت عن إبدائه قبل نظر الموضوع نزولاً ضمنياً عن التمسك به. لما كان ذلك، وكان يبين من الرجوع إلى محاضر الجلسات أمام محكمة أول درجة أن الدعوى نظرت بجلسة 24/ 5/ 1964، وبعد تداولها بالجلسات طلبت الشركة المطعون ضدها الأولى بجلسة 7/ 3/ 1965 - وعلى أثر تقديم الطاعنين مستنداتهما - حجز الدعوى للحكم دون أن تبدي تمسكها بشرط التحكيم علاوة على أنه لم يسبق لها التمسك به، فقررت المحكمة حجز الدعوى للحكم لآخر الجلسة، ثم أعادتها إلى المرافعة لجلسة 21/ 3/ 1965 لمناقشة الطرفين، وإذ دفع الحاضر عن الطاعنين في تلك الجلسة ببطلان شرط التحكيم فقد طلبت الشركة المطعون ضدها تأجيل الدعوى للصلح ووافقها الطاعنان على ذلك، وقد أجابت المحكمة الطرفين إلى طلبهما، ثم تأجلت الدعوى بعد ذلك أكثر من مرة كطلب الطرفين لإتمام الصلح، وبجلسة 2/ 6/ 1965 اتفقاً على وقف الدعوى لهذا السبب مدة ثلاثة أشهر، وبعد تعجيلها وتأجيلها عدة جلسات دفعت الشركة لأول مرة في مذكرتها المقدمة لجلسة 27/ 2/ 1966 التي كانت محددة للنطق بالحكم بعدم قبول الدعوى لوجود شرط التحكيم. وإذ كان ما صدر من الشركة المطعون ضدها قبل إبدائها هذا الدفع من طلب الحكم في الدعوى دون تمسكها بشرط التحكيم، وطلب التأجيل للصلح والاتفاق على وقف الدعوى لإتمامه على النحو المتقدم ذكره يفيد تسليم الشركة المطعون ضدها بقيام النزاع أمام محكمة مختصة ومواجهتها موضوع الدعوى، وبذلك تكون قد تنازلت ضمناً عن الدفع المشار إليه مما يسقط حقها فيه، لما كان ما تقدم وكان الحكم المطعون فيه قد خالف هذا النظر، فإنه يكون معيباً بما يستوجب نقضه لهذا السبب دون حاجة لبحث باقي أسباب الطعن.